فصل: الآية رقم ‏(‏ 109 ‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏ 104 ‏:‏ 105 ‏)‏

‏{‏وما نؤخره إلا لأجل معدود، يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد‏}‏

قوله تعالى‏{‏وما نؤخره‏}‏ أي ما نؤخر ذلك اليوم‏.‏ ‏}‏إلا لأجل معدود‏}‏ أي لأجل سبق به قضاؤنا، وهو معدود عندنا‏.‏ ‏}‏يوم يأتي‏}‏ وقرئ ‏}‏يوم يأت‏}‏ لأن الياء تحذف إذا كان قبلها كسرة؛ تقول‏:‏ لا أدر؛ ذكره القشيري‏.‏ قال النحاس‏:‏ قرأه أهل المدينة وأبو عمرو والكسائي بإثبات الياء في الإدراج؛ وحذفها في الوقف، وروي أن أبيا وابن مسعود قرآ ‏}‏يوم يأتي‏}‏ بالياء في الوقف والوصل‏.‏ وقرأ الأعمش وحمزة ‏}‏يوم يأت‏}‏ بغير باء في الوقف والوصل، قال أبو جعفر النحاس‏:‏ الوجه في هذا ألا يوقف عليه، وأن يوصل بالياء، لأن جماعة من النحويين قالوا‏:‏ لا تحذف الياء، ولا يجزم الشيء بغير جازم؛ فأما الوقف بغير ياء ففيه قول للكسائي؛ قال‏:‏ لأن الفعل السالم يوقف عليه كالمجزوم، فحذف الياء، كما تحذف الضمة‏.‏ وأما قراءة حمزة فقد احتج أبو عبيد لحذف الياء في الوصل والوقف بحجتين إحداهما‏:‏ أنه زعم أنه رآه في الإمام الذي يقال له إنه مصحف عثمان رضي الله عنه بغير ياء‏.‏ والحجة الأخرى‏:‏ أنه حكى أنها لغة هذيل؛ تقول‏:‏ ما أدر؛ قال النحاس‏:‏ أما حجته بمصحف عثمان رضي الله عنه فشيء يرده عليه أكثر العلماء؛ قال مالك بن أنس رحمه الله‏:‏ سألت عن مصحف عثمان رضي الله عنه فقيل لي ذهب؛ وأما حجته بقولهم‏{‏ما أدر‏}‏ فلا حجة فيه؛ لأن هذا الحذف قد حكاه النحويون القدماء، وذكروا علته، وأنه لا يقاس عليه‏.‏ وأنشد الفراء في حذف الياء‏.‏

كفاك كف ما تليق دوهما جودا وأخرى تعط بالسيف الدما

أي تعطي‏.‏ وقد حكى سيبويه والخليل أن العرب تقول‏:‏ لا أدر، فتحذف الياء وتجتزئ بالكسرة، إلا أنهم يزعمون أن ذلك لكثرة الاستعمال‏.‏ قال الزجاج‏:‏ والأجود في النحو إثبات الياء؛ قال‏:‏ والذي أراه اتباع المصحف وإجماع القراء؛ لأن القراءة سنة؛ وقد جاء مثله في كلام العرب‏.‏ ‏}‏لا تكلم نفس إلا بإذنه‏}‏ الأصل تتكلم؛ حذفت إحدى التاءين تخفيفا‏.‏ وفيه إضمار؛ أي لا تتكلم فيه نفس إلا بالمأذون فيه من حسن الكلام؛ لأنهم ملجوؤون إلى ترك القبيح‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لا تكلم بحجة ولا شفاعة إلا بإذنه‏.‏ وقيل‏:‏ إن لهم في الموقف وقتا يمنعون فيه من الكلام إلا بإذنه‏.‏ وهذه الآية أكثر ما يسأل عنها أهل الإلحاد في الدين‏.‏ فيقول لم قال‏{‏لا تكلم نفس إلا بإذنه‏}‏ و‏}‏هذا يوم لا ينطقون‏.‏ ولا يؤذن لهم فيعتذرون‏}‏المرسلات‏:‏ 36‏]‏‏.‏ وقال في موضع من ذكر القيامة‏{‏وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون‏}‏الصافات‏:‏ 27‏]‏‏.‏ وقال‏{‏يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها‏}‏النحل‏:‏ 111‏]‏‏.‏ وقال‏{‏وقفوهم إنهم مسؤولون‏}‏الصافات‏:‏ 24‏]‏‏.‏ وقال‏{‏فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان‏}‏الرحمن‏:‏ 39‏]‏‏.‏ والجواب ما ذكرناه، وأنهم لا ينطقون بحجة تجب لهم وإنما يتكلمون بالإقرار بذنوبهم، ولوم بعضهم بعضا، وطرح بعضهم الذنوب على بعض؛ فأما التكلم والنطق بحجة لهم فلا؛ وهذا كما تقول للذي يخاطبك كثيرا، وخطابه فارغ عن الحجة‏:‏ ما تكلمت بشيء، وما نطقت بشيء، فسمي من يتكلم بلا حجة فيه له غير متكلم‏.‏ وقال‏:‏ قوم‏:‏ ذلك اليوم طويل، وله مواطن ومواقف في بعضها يمنعون من الكلام، وفي بعضها يطلق لهم الكلام؛ فهذا يدل على أنه لا تتكلم نفس إلا بإذنه‏.‏ ‏}‏فمنهم شقي وسعيد‏}‏ أي من الأنفس، أو من الناس؛ وقد ذكرهم قوله‏{‏يوم مجموع له الناس‏}‏‏.‏ والشقي الذي كتبت عليه الشقاوة‏.‏ والسعيد الذي كتبت عليه السعادة؛ قال لبيد‏:‏

فمنهم سعيد آخذ بنصيبه ومنهم شقي بالمعيشة قانع

وروى الترمذي عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب قال لما نزلت هذه الآية ‏}‏فمنهم شقي وسعيد‏}‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت‏:‏ يا نبي الله فعلام نعمل‏؟‏ على شيء قد فرغ منه، أو على شيء لم يفرغ منه‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر ولكن كل ميسر لما خلق له‏)‏‏.‏ قال‏:‏ هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث عبدالله بن عمر؛ وقد تقدم في ‏}‏الأعراف‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 106 ‏:‏ 107 ‏)‏

‏{‏فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق، خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد، وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ‏}‏

قوله تعالى‏{‏فأما الذين شقوا‏}‏ ابتداء‏.‏ ‏}‏ففي النار‏}‏ في موضع الخبر، وكذا ‏}‏لهم فيها زفير وشهيق‏}‏ قال أبو العالية‏:‏ الزفير من الصدر‏.‏ والشهيق من الحلق؛ وعنه أيضا ضد ذلك‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الزفير من شدة الأنين، والشهيق من الأنين المرتفع جدا؛ قال‏:‏ وزعم أهل اللغة من الكوفيين والبصريين أن الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمير في النهيق، والشهيق بمنزلة آخر صوت الحمار في الشهيق‏.‏ وقال ابن عباس رضي الله عنه عكسه؛ قال‏:‏ الزفير الصوت الشديد، والشهيق الصوت الضعيف‏.‏ وقال الضحاك ومقاتل‏:‏ الزفير مثل أول نهيق الحمار، والشهيق مثل آخره حين فرغ من صوته؛ قال الشاعر‏:‏

حشرج في الجوف سحيلا أو شهيق حتى يقال ناهق وما نهق

وقيل‏:‏ الزفير إخراج النفس، وهو أن يمتلئ الجوف غما فيخرج بالنفس، والشهيق رد النفس وقيل‏:‏ الزفير ترديد النفس من شدة الحزن؛ مأخوذ من الزفر وهو الحمل على الظهر لشدته؛ والشهيق النفس الطويل الممتد؛ مأخوذ من قولهم‏:‏ جبل شاهق؛ أي طويل‏.‏ والزفير والشهيق من أصوات المحزونين‏.‏

قوله تعالى‏{‏خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض‏}‏ ‏}‏ما دامت‏}‏ في موضع نصب على الظرف؛ أي دوام السماوات والأرض، والتقدير‏:‏ وقت ذلك‏.‏ واختلف في تأويل هذا؛ فقالت‏.‏ طائفة منهم الضحاك‏:‏ المعنى ما دامت سماوات الجنة والنار وأرضهما والسماء كل ما علاك فأظلك، والأرض ما استقر عليه قدمك؛ وفي التنزيل‏{‏وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء‏}‏الزمر‏:‏ 74‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ أراد به السماء والأرض المعهودتين في الدنيا وأجرى ذلك على عادة العرب في الإخبار‏.‏ عن دوام الشيء وتأبيده؛ كقولهم‏:‏ لا آتيك ما جن ليل، أو سال سيل، وما اختلف الليل والنهار، وما ناح الحمام، وما دامت السماوات والأرض، ونحو هذا مما يريدون به‏.‏ طولا من غير نهاية؛ فأفهمهم الله تخليد الكفرة بذلك‏.‏ وإن كان قد أخبر بزوال السماوات‏.‏ والأرض‏.‏ وعن ابن عباس أن جميع الأشياء المخلوقة أصلها من نور العرش، وأن السماوات والأرض في الآخرة تردان إلى النور الذي أخذتا منه؛ فهما دائمتان أبدا في نور العرش‏.‏

قوله تعالى‏{‏إلا ما شاء ربك‏}‏ في موضع نصب؛ لأنه استثناء ليس من الأول؛ وقد اختلف فيه على أقوال عشرة‏:‏ الأولى‏:‏ أنه استثناء من قوله‏{‏ففي النار‏}‏ كأنه قال‏:‏ إلا ما شاء ربك من تأخير قوم عن ذلك؛ وهذا قول رواه أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري وجابر رضي الله عنهما‏.‏ وإنما لم يقل من شاء؛ لأن المراد العدد لا الأشخاص؛ كقوله‏{‏ما طاب لكم‏}‏النساء‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وعن أبي نضرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏إلا من شاء ألا يدخلهم وإن شقوا بالمعصية‏)‏‏.‏ الثاني‏:‏ أن الاستثناء إنما هو للعصاة من المؤمنين في إخراجهم بعد مدة من النار؛ وعلى هذا يكون قوله‏{‏فأما الذين شقوا‏}‏ عاما في الكفرة والعصاة، ويكون الاستثناء من ‏}‏خالدين‏}‏؛ قاله قتادة والضحاك وأبو سنان وغيرهم‏.‏ وفي الصحيح من حديث أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يدخل ناس جهنم حتى إذا صاروا كالحممة أخرجوا منها ودخلوا الجنة فيقال هؤلاء الجهنميون‏)‏ وقد تقدم هذا المعنى في ‏}‏النساء‏}‏ وغيرها‏.‏ الثالث‏:‏ أن الاستثناء من الزفير والشهيق؛ أي لهم فيها زفير وشهيق إلا ما شاء ربك من أنواع العذاب الذي لم يذكره، وكذلك لأهل الجنة من النعيم ما ذكر، وما لم يذكر‏.‏ حكاه ابن الأنباري‏.‏ الرابع‏:‏ قال ابن مسعود‏{‏خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض‏}‏ لا يموتون فيها، ولا يخرجون منها ‏}‏إلا ما شاء ربك‏}‏ وهو أن يأمر النار فتأكلهم وتفنيهم، ثم يجدد خلقهم‏.‏

قلت‏:‏ وهذا القول خاص بالكافر والاستثناء له في الأكل، وتجديد الخلق‏.‏ الخامس‏:‏ أن ‏}‏إلا‏}‏ بمعنى ‏}‏سوى‏}‏ كما تقول في الكلام‏:‏ ما معي رجل إلا زيد، ولي عليك ألفا درهم إلا الألف التي لي عليك‏.‏ قيل‏:‏ فالمعنى ما دامت السماوات والأرض سوى ما شاء ربك من الخلود‏.‏ السادس‏:‏ أنه استثناء من الإخراج، وهو لا يريد أن يخرجهم منها‏.‏ كما تقول في الكلام‏:‏ أردت أن أفعل ذلك إلا أن أشاء غيره، وأنت مقيم على ذلك الفعل؛ فالمعنى أنه لو شاء أن يخرجهم لأخرجهم، ولكنه قد أعلمهم أنهم خالدون فيها، ذكر هذين القولين الزجاج عن أهل اللغة، قال‏:‏ ولأهل المعاني قولان آخران، فأحد القولين‏{‏خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك‏}‏ من مقدار موقفهم على رأس قبورهم، وللمحاسبة، وقدر مكثهم في الدنيا، والبرزخ، والوقوف للحساب‏.‏ والقول الآخر‏:‏ وقوع الاستثناء في الزيادة على النعيم والعذاب، وتقديره‏{‏خالدين فيها ما دامت السماوات ولأرض إلا ما شاء ربك‏}‏ من زيادة النعيم لأهل النعيم، وزيادة العذاب لأهل الجحيم‏.‏

قلت‏:‏ فالاستثناء في الزيادة من الخلود على مدة كون السماء والأرض المعهودتين في الدنيا واختاره الترمذي الحكيم أبو عبدالله محمد بن علي، أي خالدين فيها مقدار دوام السماوات والأرض، وذلك مدة العالم، وللسماء والأرض وقت يتغيران فيه، وهو قوله سبحانه‏{‏يوم تبدل الأرض غير الأرض‏}‏إبراهيم‏:‏ 48‏]‏ فخلق الله سبحانه الآدميين وعاملهم، واشترى منهم أنفسهم وأموالهم بالجنة، وعلى ذلك بايعهم يوم الميثاق، فمن وفي بذلك العهد فله الجنة، ومن ذهب برقبته يخلد في النار بمقدار دوام السماوات والأرض؛ فإنما دامتا للمعاملة؛ وكذلك أهل الجنة خلود في الجنة بمقدار ذلك؛ فإذا تمت هذه المعاملة وقع الجميع في مشيئة الله؛ قال الله تعالى‏{‏وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين‏.‏ ما خلقناهما إلا بالحق‏}‏الدخان‏:‏ 39‏]‏ فيخلد أهل الدارين بمقدار دوامهما، وهو حق الربوبية بذلك المقدار من العظمة؛ ثم أوجب لهم الأبد في كلتا الدارين لحق الأحدية؛ فمن لقيه موحدا لأحديته بقي في داوه أبدا، ومن لقيه مشركا بأحديته إلها بقي في السجن أبدا؛ فأعلم الله العباد مقدار الخلود، ثم قال‏{‏إلا ما شاء ربك‏}‏ من زيادة المدة التي تعجز القلوب عن إدراكها لأنه لا غاية لها؛ فبالاعتقاد دام خلودهم في الدارين أبدا‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن ‏}‏إلا‏}‏ بمعنى الواو، قاله الفراء وبعض أهل النظر وهو‏:‏ الثامن‏:‏ والمعنى‏:‏ وما شاء ربك من الزيادة في الخلود على مدة دوام السماوات والأرض في الدنيا‏.‏ وقد قيل في قوله تعالى‏{‏إلا الذين ظلموا‏}‏البقرة‏:‏ 150‏]‏ أي ولا الذين ظلموا‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان

أي والفرقدان‏.‏ وقال أبو محمد مكي‏:‏ وهذا قول بعيد عند البصريين أن تكون ‏}‏إلا‏}‏ بمعنى الواو، وقد مضى في ‏}‏البقرة‏}‏ بيانه‏.‏ وقيل‏:‏ معناه كما شاء ربك؛ كقوله تعالى‏{‏ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف‏}‏النساء‏:‏ 22‏]‏ أي كما قد سلف، وهو‏:‏ التاسع، العاشر‏:‏ وهو أن قوله تعالى‏{‏إلا ما شاء رب‏}‏ إنما ذلك على طريق الاستثناء الذي ندب الشرع إلى استعماله في كل كلام؛ فهو على حد قوله تعالى‏{‏لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين‏}‏الفتح‏:‏ 27‏]‏ فهو استثناء في واجب، وهذا الاستثناء في حكم الشرط كذلك؛ كأنه قال‏:‏ إن شاء ربك؛ فليس يوصف بمتصل ولا منقطع؛ ويؤيده ويقويه قوله تعالى‏{‏عطاء غير مجذوذ‏}‏ ونحوه عن أبي عبيد قال‏:‏ تقدمت عزيمة المشيئة من الله تعالى في خلود الفريقين في الدارين؛ فوقع لفظ الاستثناء، والعزيمة قد تقدمت في الخلود، قال‏:‏ وهذا مثل قوله تعالى‏{‏لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين‏}‏الفتح‏:‏ 27‏]‏ وقد علم أنهم يدخلونه حتما، فلم يوجب الاستثناء في الموضعين خيارا؛ إذ المشيئة قد تقدمة، بالعزيمة في الخلود في الدارين والدخول في المسجد الحرام؛ ونحوه عن الفراء‏.‏ وقول‏:‏ حادي عشر‏:‏ وهو أن الأشقياء هم السعداء، والسعداء هم الأشقياء لا غيرهم، والاستثناء في الموضعين راجع إليهم؛ وبيانه أن ‏}‏ما‏}‏ بمعنى ‏}‏من‏}‏ استثنى الله عز وجل من الداخلين في النار المخلدين فيها الذين يخرجون منها من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بما معهم من الإيمان، واستثنى من الداخلين في الجنة المخلدين فيها الذين يدخلون النار بذنوبهم قبل دخول الجنة ثم يخرجون منها إلى الجنة‏.‏ وهم الذين وقع عليهم الاستثناء الثاني؛ كأنه قال تعالى‏{‏فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك‏}‏ ألا يخلده فيها، وهم الخارجون منها من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بإيمانهم وبشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهم بدخولهم النار يسمون الأشقياء، وبدخلهم الجنة يسمون السعداء؛ كما روى الضحاك عن ابن عباس إذ قال‏:‏ الذين سعدوا شقوا بدخول النار ثم سعدوا بالخروج منها ودخولهم الجنة‏.‏

وقرأ الأعمش وحفص وحمزة والكسائي ‏}‏وأما الذين سعدوا‏}‏ بضم السين‏.‏ وقال أبو عمرو‏:‏ والدليل على أنه سعدوا أن الأول شقوا ولم يقل أشقوا‏.‏ قال النحاس‏:‏ ورأيت علي بن سليمان يتعجب من قراءة الكسائي ‏}‏سعدوا‏}‏ مع علمه بالعربية‏!‏ إذ كان هذا لحنا لا يجوز؛ لأنه إنما يقال‏:‏ سعد فلان وأسعده الله، وأسعد مثل أمرض؛ وإنما احتج الكسائي بقولهم‏:‏ مسعود ولا حجة له فيه؛ لأنه يقال‏:‏ مكان مسعود فيه، ثم يحذف فيه ويسمى به‏.‏ وقال المهدوي‏:‏ ومن ضم السين من ‏}‏سعدوا‏}‏ فهو محمول على قولهم‏:‏ مسعود وهو شاذ قليل؛ لأنه لا يقال‏:‏ سعده الله؛ إنما يقال‏:‏ أسعده الله‏.‏ وقال الثعلبي‏{‏سعدوا‏}‏ بضم السين أي رزقوا السعادة؛ يقال‏:‏ سعد وأسعد بمعنى واحد وقرأ الباقون ‏}‏سعدوا‏}‏ بفتح السين قياسا على ‏}‏شقوا‏}‏ واختاره أبو عبيد وأبو حاتم‏.‏ وقال الجوهري‏:‏ والسعادة خلاف الشقاوة؛ تقول‏:‏ منه سعد الرجل بالكسر فهو سعيد، مثل سلم فهو سليم، وسعد فهو مسعود؛ ولا يقال فيه‏:‏ مسعد، كأنهم استغنوا عنه بمسعود‏.‏ وقال القشيري أبو نصر عبدالرحيم‏:‏ وقد ورد سعده الله فهو مسعود، وأسعده الله فهو مسعد؛ فهذا يقوي قول الكوفيين وقال سيبويه‏:‏ لا يقال سعد فلان كما لا يقال شقي فلان؛ لأنه مما لا يتعدى‏.‏ ‏}‏عطاء غير مجذوذ‏}‏ أي غير مقطوع؛ من جذه يجذه أي قطعه؛ قال النابغة‏:‏

تجذ السلوقي المضاعف نسجه وتوقد بالصفاح نار الحباحب

 الآية رقم ‏(‏ 109 ‏)‏

‏{‏فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص‏}‏

قوله تعالى‏{‏فلا تك‏}‏ جزم بالنهي؛ وحذفت النون لكثرة الاستعمال‏.‏ ‏}‏في مرية‏}‏ أي في شك‏.‏ ‏}‏مما يعبد هؤلاء‏}‏ من الآلهة أنها باطل‏.‏ وأحسن من هذا‏:‏ أي قل يا محمد لكل من شك ‏}‏لا تك في مرية مما يعبد هؤلاء‏}‏ أن الله عز وجل ما أمرهم به، وإنما يعبدونها كما كان آباؤهم يفعلون تقليدا لهم‏.‏ ‏}‏وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏:‏ أحدها‏:‏ نصيبهم من الرزق؛ قاله أبو العالية‏.‏ الثاني‏:‏ نصيبهم من العذاب؛ قال ابن زيد‏.‏ الثالث‏:‏ ما وعدوا به من خير أو شر، قاله ابن عباس رضي الله عنهما‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 110 ‏)‏

‏{‏ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولولا كلمة سبقت من ربك‏}‏ ‏}‏ولولا كلمة سبقت من ربك‏}‏ الكلمة‏:‏ أن الله عز وجل حكم أن يؤخرهم إلى يوم القيامة لما علم في ذلك من الصلاح؛ ولولا ذلك لقضى بينهم أجلهم بأن يثيب المؤمن ويعاقب الكافر‏.‏ قيل‏:‏ المراد بين المختلفين في كتاب موسى؛ فإنهم كانوا بين مصدق به ومكذب‏.‏ وقيل‏:‏ بين هؤلاء المختلفين فيك يا محمد بتعجيل العقاب، ولكن سبق الحكم بتأخير العقاب عن هذه الأمة إلى يوم القيامة‏.‏ ‏}‏وإنهم لفي شك منه مريب‏}‏ إن حملت على قوم موسى؛ أي لفي شك من كتاب موسى فهم في شك من القرآن‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 111 ‏)‏

‏{‏وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم‏}‏ أي إن كلا من الأمم التي عددناهم يرون جزاء أعمالهم؛ فكذلك قومك يا محمد‏.‏ واختلف القراء في قراءة ‏}‏وإن كلا لما‏}‏ فقرأ أهل الحرمين - نافع وابن كثير وأبو بكر معهم - ‏}‏وإنْ كلا لَمَا‏}‏ بالتخفيف، على أنها ‏}‏إن‏}‏ المخففة من الثقيلة معملة؛ وقد ذكر هذا الخليل وسيبويه، قال سيبويه‏:‏ حدثنا من أثق به أنه سمع العرب تقول‏:‏ إن زيدا لمنطلق؛ وأنشد قول الشاعر‏:‏

كأنْ ظبية تعطو إلى وارق السلم

أراد كأنها ظبية فخفف ونصب ما بعدها؛ والبصريون يجوزون تخفيف ‏}‏إن‏}‏ المشددة مع إعمالها؛ وأنكر ذلك الكسائي وقال‏:‏ ما أدري على أي شيء قرئ ‏}‏وإن كلا‏}‏‏!‏ وزعم الفراء أنه نصب ‏}‏كلا‏}‏ في قراءة من خفف بقوله‏{‏ليوفينهم‏}‏ أي وإن ليوفينهم كلا؛ وأنكر ذلك جميع النحويين، وقالوا‏:‏ هذا من كبير الغلط؛ لا يجوز عند أحد زيدا لأضربنه‏.‏ وشدد الباقون ‏}‏إن‏}‏ ونصبوا بها ‏}‏كلا‏}‏ على أصلها‏.‏ وقرأ عاصم وحمزة وابن عامر ‏}‏لما‏}‏ بالتشديد‏.‏ وخففها الباقون على معنى‏:‏ وإن كلا ليوفينهم، جعلوا ‏}‏ما‏}‏ صلة‏.‏ وقيل‏:‏ دخلت لتفصل بين اللامين اللتين تتلقيان القسم، وكلاهما مفتوح ففصل بينهما بـ ‏}‏ما‏}‏‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ لام ‏}‏لما‏}‏ لام ‏}‏إن‏}‏ و‏}‏ما‏}‏ زائدة مؤكدة؛ تقول‏:‏ إن زيدا لمنطلق، فإن تقتضي أن يدخل على خبرها أو اسمها لام كقولك‏:‏ إن الله لغفور رحيم، وقوله‏{‏إن في ذلك لذكري‏}‏‏.‏ واللام في ‏}‏ليوفينهم‏}‏ هي التي يتلقى بها القسم، وتدخل على الفعل ويلزمها النون المشددة أو المخففة، ولما اجتمعت اللامان فصل بينهما بـ ‏}‏ما‏}‏ و‏}‏ما‏}‏ زائدة مؤكدة، وقال الفراء‏{‏ما‏}‏ بمعنى ‏}‏من‏}‏ كقوله‏{‏وإن منكم لمن ليبطئن‏}‏النساء‏:‏ 72‏]‏ أي وإن كلا لمن ليوفينهم، واللام في ‏}‏ليوفينهم‏}‏ للقسم؛ وهذا يرجع معناه إلى قول الزجاج، غير أن ‏}‏ما‏}‏ عند الزجاج زائدة وعند الفراء اسم بمعنى ‏}‏من‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ ليست بزائد، بل هي اسم دخل عليها لام التأكيد، وهي خبر ‏}‏إن‏}‏ و‏}‏ليوفينهم‏}‏ جواب القسم، التقدير‏:‏ وإن كلا خلق ليوفينهم ربك أعمالهم‏.‏ وقيل‏{‏ما‏}‏ بمعنى ‏}‏من‏}‏ كقوله‏{‏فانكحوا ما طاب لكم من النساء‏}‏النساء‏:‏ 3‏]‏ أي من؛ وهذا كله هو قول الفراء بعينه‏.‏ وأما من شدد ‏}‏لما‏}‏ وقرأ ‏}‏وإن كلا لما‏}‏ بالتشديد فيهما - وهو حمزة ومن وافقه - فقيل‏:‏ إنه لحن؛ حكي عن محمد بن زيد أن هذا لا يجوز؛ ولا يقال‏:‏ إن زيدا إلا لأضربنه، ولا لما لضربته‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ الله أعلم بهذه القراءة؛ وما أعرف لها وجها‏.‏ وقال هو وأبو علي الفارسي‏:‏ التشديد فيهما مشكل‏.‏ قال النحاس وغيره‏:‏ وللنحويين في ذلك أقوال‏:‏ الأول‏:‏ أن أصلها ‏}‏لمن ما‏}‏ فقلبت النون ميما، واجتمعت ثلاث ميمات فحذفت الوسطى فصارت ‏}‏لما‏}‏ و‏}‏ما‏}‏ على هذا القول بمعنى ‏}‏من‏}‏ تقديره‏:‏ وإن كلا لمن الذين؛ كقولهم‏:‏

وإني لمَّا أصدر الأمر وجهه إذا هو أعيا بالسبيل مصادره

وزيّف الزجاج هذا القول، وقال‏{‏من‏}‏ اسم على حرفين فلا يجوز حذفه‏.‏ الثاني‏:‏ أن الأصل‏.‏ لمن ما، فحذفت الميم المكسورة لاجتماع الميمات، والتقدير‏:‏ وإن كلا لمن خلق ليوفينهم‏.‏ وقيل‏{‏لما‏}‏ مصدر ‏}‏لم‏}‏ وجاءت بغير تنوين حملا للوصل على الوقف؛ فهي على هذا كقوله‏{‏وتأكلون التراث أكلا لما‏}‏الفجر‏:‏ 19‏]‏ أي جامعا للمال المأكول؛ فالتقدير على هذا‏:‏ وإن كلا ليوفينهم ربك أعمالهم توفية لما؛ أي جامعة لأعمالهم جمعا، فهو كقولك‏:‏ قياما لأقومن‏.‏ وقد قرأ الزهري ‏}‏لما‏}‏ بالتشديد والتنوين على هذا المعنى‏.‏ الثالث‏:‏ أن ‏}‏لما‏}‏ بمعنى ‏}‏إلا‏}‏ حكى أهل اللغة‏:‏ سألتك بالله لما فعلت؛ بمعنى إلا فعلت؛ ومثله قوله تعالى‏{‏إن كل نفس لما عليها حافظ‏}‏الطارق‏:‏ 4‏]‏ أي إلا عليها؛ فمعنى الآية‏:‏ ما كل واحد منهم إلا ليوفينهم؛ قال القشيري‏:‏ وزيف الزجاج هذا القول بأنه لا نفي لقوله‏{‏وإن كلا لما‏}‏ حتى تقدر ‏}‏إلا‏}‏ ولا يقال‏:‏ ذهب الناس لما زيد‏.‏ الرابع‏:‏ قال أبو عثمان المازني‏:‏ الأصل وإن كلا لما بتخفيف ‏}‏لما‏}‏ ثم ثقلت كقوله‏:‏

لقد خشيت أن أرى جدبا في عامنا ذا بعد ما أخصبا

وقال أبو إسحاق الزجاج‏:‏ هذا خطأ، إنما يخفف المثقل؛ ولا يثقل المخفف‏.‏ الخامس‏:‏ قال أبو عبيد القاسم بن سلام‏:‏ يجوز أن يكون التشديد من قولهم‏:‏ لممت الشيء ألمه لما إذا جمعته؛ ثم بني منه فعلى، كما قرئ ‏}‏ثم أرسلنا رسلنا تترى‏}‏المؤمنون‏:‏ 44‏]‏ بغير تنوين وبتنوين‏.‏ فالألف على هذا للتأنيث، وتمال على هذا القول لأصحاب الإمالة؛ قال أبو إسحاق‏:‏ القول الذي لا يجوز غيره عندي أن تكون مخففة من الثقيلة، وتكون بمعنى ‏}‏ما‏}‏ مثل‏{‏إن كل نفس لما عليها حافظ‏}‏الطارق‏:‏ 4‏]‏ وكذا أيضا تشدد على أصلها، وتكون بمعنى ‏}‏ما‏}‏ و‏}‏لما‏}‏ بمعنى ‏}‏إلا‏}‏ حكى ذلك الخليل وسيبويه وجميع البصريين؛ وأن ‏}‏لما‏}‏ يستعمل بمعنى ‏}‏إلا‏}‏ قلت‏:‏ هذا القول الذي ارتضاه الزجاج حكاه عنه النحاس وغيره؛ وقد تقدم مثله وتضعيف الزجاج له، إلا أن ذلك القول صوابه ‏}‏إن‏}‏ فيه نافية، وهنا مخففة من الثقيلة فافترقا وبقيت قراءتان؛ قال أبو حاتم‏:‏ وفي حرف أبي‏{‏وإن كلا لما ليوفينهم‏}‏هود‏:‏ 111‏]‏ وروي عن الأعمش ‏}‏وإن كل لما‏}‏ بتخفيف ‏}‏إن‏}‏ ورفع ‏}‏كل‏}‏ وبتشديد ‏}‏لما‏}‏‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذه القراءات المخالفة للسواد تكون فيها ‏}‏إن‏}‏ بمعنى ‏}‏ما‏}‏ لا غير، وتكون على التفسير؛ لأنه لا يجوز أن يقرأ بما خالف السواد إلا على هذه الجهة‏.‏ ‏}‏إنه بما يعملون خبير‏}‏ تهديد ووعيد‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 112 ‏)‏

‏{‏فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير‏}‏

قوله تعالى‏{‏فاستقم كما أمرت‏}‏ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره‏.‏ وقيل‏:‏ له والمراد أمته؛ قاله السدى‏.‏ وقيل‏{‏استقم‏}‏ اطلب الإقامة على الدين من الله واسأله ذلك‏.‏ فتكون السين سين السؤال، كما تقول‏:‏ استغفر الله أطلب الغفران منه‏.‏ والاستقامة الاستمرار في جهة واحدة من غير أخذ في جهة اليمين والشمال؛ فاستقم على امتثال أمر الله‏.‏ وفي صحيح مسلم عن سفيان بن عبدالله الثقفي قال‏:‏ قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك‏!‏ قال‏:‏ ‏(‏قل آمنت بالله ثم استقم‏)‏‏.‏ وروى الدارمي أبو محمد في مسنده عن عثمان بن حاضر الأزدي قال‏:‏ دخلت على ابن عباس فقلت أوصني‏!‏ فقال‏:‏ نعم‏!‏ عليك بتقوى الله والاستقامة، اتبع ولا تبتدع‏.‏ ‏}‏ومن تاب معك‏}‏ أي استقم أنت وهم؛ يريد أصحابه الذين تابوا من الشرك ومن بعده ممن اتبعه من أمته‏.‏ قال ابن عباس ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشد ولا أشق من هذه الآية عليه، ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له‏:‏ لقد أسرع إليك الشيب‏!‏ فقال‏:‏ ‏(‏شيبتني هود وأخواتها‏)‏‏.‏ وقد تقدم في أول السورة‏.‏ وروي عن أبي عبدالرحمن السلمي قال سمعت أبا علي السري يقول‏:‏ رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت‏:‏ يا رسول الله‏!‏ روي عنك أنك قلت‏:‏ ‏(‏شيبتني هود‏)‏‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏ فقلت له‏:‏ ما الذي شيبك منها‏؟‏ قصص الأنبياء وهلاك الأمم‏!‏ فقال‏:‏ ‏(‏لا ولكن قوله‏:‏ فاستقم كما أمرت‏)‏‏.‏ ‏}‏ولا تطغوا‏}‏ نهى عن الطغيان والطغيان مجاوزة الحد؛ ومنه ‏}‏إنا لما طغى الماء‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ أي لا تتجبروا على أحد‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 113 ‏)‏

‏{‏ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولا تركنوا‏}‏ الركون حقيقة الاستناد والاعتماد والسكون إلى، الشيء والرضا به، قال قتادة‏:‏ معناه لا تودوهم ولا تطيعوهم‏.‏ ابن جريج‏:‏ لا تميلوا إليهم‏.‏ أبو العالية‏:‏ لا ترضوا أعمالهم؛ وكله متقارب‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ الركون هنا الإدهان وذلك ألا ينكر عليهم كفرهم‏.‏

قرأ الجمهور‏{‏تركنوا‏}‏ بفتح الكاف؛ قال أبو عمرو‏:‏ هي لغة أهل الحجاز‏.‏ وقرأ طلحة بن مصرف وقتادة وغيرهما‏{‏تركنوا‏}‏ بضم الكاف؛ قال الفراء‏:‏ وهي لغة تميم وقيس‏.‏ وجوز قوم ركن يركن مثل منع يمنع‏.‏‏}‏ ‏}‏إلى الذين ظلموا‏}‏ قيل‏:‏ أهل الشرك‏.‏ وقيل‏:‏ عامة فيهم وفي العصاة، على نحو قوله تعالى‏{‏وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا‏}‏الأنعام‏:‏ 68‏]‏ الآية‏.‏ وقد تقدم‏.‏ وهذا هو الصحيح في معنى الآية؛ وأنها دالة على هجران أهل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم؛ فإن صحبتهم كفر أو معصية؛ إذ الصحبة لا تكون إلا عن مودة؛ وقد قال حكيم‏:‏

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارِن يقتدي

فإن كانت الصحبة عن ضرورة وتقية فقد مضى القول فيها في ‏}‏آل عمران‏}‏ و‏}‏المائدة‏}‏‏.‏ وصحبة الظالم على التقية مستثناة من النهي بحال الاضطرار‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏فتمسكم النار‏}‏ أي تحرقكم‏.‏ بمخالطتهم ومصاحبتهم وممالأتهم على إعراضهم وموافقتهم في أمورهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 114 ‏)‏

‏{‏وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وأقم الصلاة طرفي النهار‏}‏ لم يختلف أحد من أهل التأويل في أن الصلاة في هذه الآية يراد بها الصلوات المفروضة؛ وخصها بالذكر لأنها ثانية الإيمان، وإليها يفزع في النوائب؛ وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة‏.‏

وقال شيوخ الصوفية‏:‏ إن المراد بهذه الآية استغراق الأوقات بالعبادة فرضا ونفلا؛ قال ابن العربي‏:‏ وهذا ضعيف، فإن الأمر لم يتناول ذلك إلا واجبا لا نفلا، فإن الأوراد معلومة، وأوقات النوافل المرغب فيها محصورة، وما سواها من الأوقات يسترسل عليها الندب على البدل لا على العموم، وليس ذلك في قوة بشر‏.‏

قوله تعالى‏{‏طرفي النهار‏}‏ قال مجاهد‏:‏ الطرف الأول، صلاة الصبح، والطرف الثاني صلاة الظهر والعصر؛ واختاره ابن عطية‏.‏ وقيل‏:‏ الطرفان الصبح والمغرب؛ قال ابن عباس والحسن‏.‏ وعن الحسن أيضا الطرف الثاني العصر وحده؛ وقال قتادة والضحاك‏.‏ وقيل‏:‏ الطرفان الظهر والعصر‏.‏ والزلف المغرب والعشاء والصبح؛ كأن هذا القائل راعى جهر القراءة‏.‏ وحكى الماوردي أن الطرف الأول صلاة الصبح باتفاق‏.‏

قلت‏:‏ وهذا الاتفاق ينقضه القول الذي قبله‏.‏ ورجح الطبري أن الطرفين الصبح والمغرب، وأنه ظاهر؛ قال ابن عطية‏:‏ ورد عليه بأن المغرب لا تدخل فيه لأنها من صلاة الليل‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ والعجب من الطبري الذي يرى أن طرفي النهار الصبح والمغرب، وهما طرفا الليل‏!‏ فقلب القوس ركوة، وحاد عن البرجاس غلوة؛ قال الطبري‏:‏ والدليل عليه إجماع الجميع على أن أحد الطرفين الصبح، فدل على أن الطرف الآخر المغرب، ولم يجمع معه على ذلك أحد‏.‏

قلت‏:‏ هذا تحامل من ابن العربي في الرد؛ وأنه لم يجمع معه على ذلك أحد؛ وقد ذكرنا عن مجاهد أن الطرف الأول صلاة الصبح، وقد وقع الاتفاق - إلا من شذ - بأن من أكل أو جامع بعد طلوع الفجر متعمدا أن يومه ذلك يوم فطر، وعليه القضاء والكفارة، وما ذلك، إلا وما بعد طلوع الفجر من النهار؛ فدل على صحة ما قاله الطبري في الصبح، وتبقى عليه المغرب والرد عليه فيه ما تقدم‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وزلفا من الليل‏}‏ أي في زلف من الليل، والزلف الساعات القريبة بعضها من بعض؛ ومنه سميت المزدلفة؛ لأنها منزل بعد عرفة بقرب مكة‏.‏ وقرأ ابن القعقاع وابن أبي إسحاق وغيرهما ‏}‏وزلفا‏}‏ بضم اللام جمع زليف؛ لأنه قد نطق بزليف، ويجوز أن يكون واحده ‏}‏زلفة‏}‏ لغة؛ كبسرة وبسر، في لغة من ضم السين‏.‏ وقرأ ابن محيصن ‏}‏وزلفا‏}‏ من الليل بإسكان اللام؛ والواحدة زلفة تجمع جمع الأجناس التي هي أشخاص كدرة ودر وبرة وبر‏.‏ وقرأ مجاهد وابن محيصن أيضا ‏}‏زلفى‏}‏ مثل قربى‏.‏ وقرأ الباقون ‏}‏وزلفا‏}‏ بفتح اللام كغرفة وغرف‏.‏ قال ابن الأعرابي‏:‏ الزلف الساعات، واحدها زلفة‏.‏ وقال قوم‏:‏ الزلفة أول ساعة من الليل بعد مغيب الشمس؛ فعلى هذا يكون المراد بزلف الليل صلاة العتمة؛ قاله ابن عباس‏.‏ وقال الحسن‏:‏ المغرب والعشاء‏.‏ وقيل‏:‏ المغرب والعشاء والصبح؛ وقد تقدم‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ يعني صلاة الليل ولم يعين‏.‏

قوله تعالى‏{‏إن الحسنات يذهبن السيئات‏}‏ ذهب جمهور المتأولين من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين إلى أن الحسنات ههنا هي الصلوات الخمس، وقال مجاهد‏:‏ الحسنات قول الرجل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، قال ابن عطية‏:‏ وهذا على جهة المثال في الحسنات، والذي يظهر أن اللفظ عام في الحسنات خاص في السيئات؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما اجتنبت الكبائر‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ سبب النزول يعضد قول الجمهور؛ نزلت في رجل من الأنصار، قيل‏:‏ هو أبو اليسر بن عمرو‏.‏ وقيل‏:‏ اسمه عباد؛ خلا بامرأة فقبلها وتلذذ بها فيما دون الفرج‏.‏ روى الترمذي عن عبدالله قال‏:‏ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏‏:‏ إني عالجت امرأة في أقصى المدينة وإني أصبت منها ما دون أن أمسها وأنا هذا فاقض في ما شئت‏.‏ فقال له عمر‏:‏ لقد سترك الله‏!‏ لو سترت على نفسك؛ فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فانطلق الرجل فأتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فدعاه، فتلا عليه‏{‏أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين‏}‏ إلى آخر الآية؛ فقال رجل من القوم‏:‏ هذا له خاصة‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا بل للناس كافة‏)‏‏.‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏ وخرج أيضا عن ابن مسعود أن رجلا أصاب من امرأة قبلة حرام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن كفارتها فنزلت‏{‏أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات‏}‏ فقال الرجل‏:‏ ألي هذه يا رسول الله‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏لك ولمن عمل بها من أمتي‏)‏‏.‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏ وروي عن أبي اليسر‏.‏ قال‏:‏ أتتني امرأة تبتاع تمرا فقلت‏:‏ إن في البيت تمرا أطيب من هذا، فدخلت معي في البيت فأهويت إليها فقبلتها، فأتيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال‏:‏ استر على نفسك وتب ولا تخبر أحدا فلم أصبر، فأتيت عمر فذكرت ذلك له فقال‏:‏ استر على نفسك وتب ولا تخبر أحدا فلم أصبر، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال‏:‏ ‏(‏أخلفت غازيا في سبيل الله في أهله بمثل هذا‏)‏‏؟‏ حتى تمنى أنه لم يكن أسلم إلا تلك الساعة، حتى ظن أنه من أهل النار‏.‏ قال‏:‏ وأطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أوحى الله إليه ‏}‏أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين‏}‏‏.‏ قال أبو اليسر‏:‏ فأتيته فقرأها علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أصحابه‏:‏ يا رسول الله‏!‏ ألهذا خاصة أم للناس عامة‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏بل للناس عامة‏)‏‏.‏ قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديث حسن غريب، وقيس بن الربيع ضعفه وكيع وغيره؛ وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أعرض عنه، وأقيمت صلاة العصر فلما فرغ منها نزل جبريل عليه السلام عليه بالآية فدعاه فقال له‏:‏ ‏(‏أشهدت معنا الصلاة‏)‏‏؟‏ قال نعم؛ قال‏:‏ ‏(‏اذهب فإنها كفارة لما فعلت‏)‏‏.‏ وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تلا عليه هذه الآية قال له‏:‏ ‏(‏قم فصل أربع ركعات‏)‏‏.‏ والله أعلم‏.‏ وخرج الترمذي الحكيم في ‏}‏نوادر الأصول‏}‏ من حديث ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لم أر شيئا أحسن طلبا ولا أسرع إدراكا من حسنة حديثة لذنب قديم، ‏}‏إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين‏}‏‏.‏

دلت الآية مع هذه الأحاديث على أن القبلة الحرام واللمس الحرام لا يجب، فيهما الحد، وقد يستدل به على أن لا حد ولا أدب على الرجل والمرأة وإن وجدا في ثوب واحد، وهو اختيار ابن المنذر؛ لأنه لما ذكر اختلاف العلماء في هذه المسألة ذكر هذا الحديث مشيرا إلى أنه لا يجب عليهما شيء، وسيأتي ما للعلماء في هذا في ‏}‏النور‏}‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر الله سبحانه في كتابه الصلاة بركوعها وسجودها وقيامها وقراءتها وأسمائها فقال‏{‏أقم الصلاة‏}‏ الآية‏.‏ وقال‏{‏أقم الصلاة لدلوك الشمس‏}‏الإسراء‏:‏ 78‏]‏ الآية‏.‏ وقال‏{‏فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون‏.‏ وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون‏}‏الروم‏:‏17 - 18‏]‏‏.‏ وقال‏{‏وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها‏}‏طه‏:‏ 130‏]‏‏.‏ وقال‏{‏اركعوا واسجدوا‏}‏الحج‏:‏ 77‏]‏‏.‏ وقال‏{‏وقوموا لله قانتين‏}‏البقرة‏:‏ 238‏]‏‏.‏ وقال‏{‏وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا‏}‏الأعراف‏:‏ 204‏]‏ على ما تقدم‏.‏ وقال‏{‏ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها‏}‏الإسراء‏:‏ 110‏]‏ أي بقراءتك؛ وهذا كله مجمل أجمله في كتابه، وأحال على نبيه في بيانه؛ فقال جل ذكره‏{‏وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم‏}‏النحل‏:‏ 44‏]‏ فبين صلى الله عليه وسلم مواقيت الصلاة، وعدد الركعات والسجدات، وصفة جميع الصلوات فرضها وسننها، وما لا تصح الصلاة إلا به من الفرائض وما يستحب فيها من السنن والفضائل؛ فقال في صحيح البخاري‏:‏ ‏(‏صلوا كما رأيتموني أصلي‏)‏‏.‏ ونقل ذلك عنه الكافة عن الكافة، على ما هو معلوم، ولم يمت النبي صلى الله عليه وسلم حتى بين جميع ما بالناس الحاجة إليه؛ فكمل الدين، وأوضح السبيل؛ قال الله تعالى‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا‏}‏المائدة‏:‏ 3‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏ذلك ذكرى للذاكرين‏}‏ أي القرآن موعظة وتوبة لمن اتعظ وتذكر؛ وخص الذاكرين بالذكر لأنهم المنتفعون بالذكرى‏.‏ والذكرى مصدر جاء بألف التأنيث‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 115 ‏:‏ 116 ‏)‏

‏{‏واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏واصبر‏}‏ أي على الصلاة؛ كقوله‏{‏وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها‏}‏طه‏:‏ 132‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى واصبر يا محمد على ما تلقى من الأذى‏.‏ ‏}‏فإن الله لا يضيع أجر المحسنين‏}‏ يعني المصلين‏.‏

قوله تعالى‏{‏فلولا كان‏}‏ أي فهلا كان‏.‏ ‏}‏من القرون من قبلكم‏}‏ أي من الأمم التي قبلكم‏.‏ ‏}‏أولو بقية‏}‏ أي أصحاب طاعة ودين وعقل وبصر‏.‏ ‏}‏ينهون‏}‏ قومهم‏.‏ ‏}‏عن الفساد في الأرض‏}‏ لما أعطاهم الله تعالى من العقول وأراهم من الآيات؛ وهذا توبيخ للكفار‏.‏ وقيل‏:‏ ولولا ههنا للنفي؛ أي ما كان من قبلكم؛ كقوله‏{‏فلولا كانت قرية آمنت‏}‏يونس‏:‏ 98‏]‏ أي ما كانت‏.‏ ‏}‏إلا قليلا‏}‏ استثناء منقطع؛ أي لكن قليلا‏.‏ ‏}‏ممن أنجينا منهم‏}‏ نهوا عن الفساد في الأرض‏.‏ قيل‏:‏ هم قوم يونس؛ لقوله‏{‏إلا قوم يونس‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ هم أتباع الأنبياء وأهل الحق‏.‏ ‏}‏واتبع الذين ظلموا‏}‏ أي أشركوا وعصوا‏.‏ ‏}‏ما أترفوا فيه‏}‏ أي من الاشتغال بالمال واللذات، وإيثار ذلك على الآخرة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 117 ‏:‏ 119 ‏)‏

‏{‏وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون، ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وما كان ربك ليهلك القرى‏}‏ أي أهل القرى‏.‏ ‏}‏بظلم‏}‏ أي بشرك وكفر‏.‏ ‏}‏وأهلها مصلحون‏}‏ أي فيما بينهم في تعاطي الحقوق؛ أي لم يكن ليهلكهم بالكفر وحده حتى ينضاف إليه الفساد، كما أهلك قوم شعيب ببخس المكيال والميزان، وقوم لوط باللواط؛ ودل هذا على أن المعاصي أقرب إلى عذاب الاستئصال في الدنيا من الشرك، وإن كان عذاب الشرك في الآخرة أصعب‏.‏ وفي صحيح الترمذي من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده‏)‏‏.‏ وقد تقدم‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مسلمون، فإنه يكون ذلك ظلما لهم ونقصا من حقهم، أي ما أهلك قوما إلا بعد إعذار وإنذار‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ يجوز أن يكون المعنى ما كان ربك ليهلك أحدا وهو يظلمه وإن كان على نهاية الصلاح؛ لأنه تصرف في ملكه؛ دليله قوله‏{‏إن الله لا يظلم الناس شيئا‏}‏يونس‏:‏ 44‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى وما كان الله ليهلكهم بذنوبهم وهم مصلحون؛ أي مخلصون في الإيمان‏.‏ فالظلم المعاصي على هذا‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة‏}‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ على ملة الإسلام وحدها‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ أهل دين واحد، أهل ضلالة أو أهل هدى‏.‏ ‏}‏ولا يزالون مختلفين‏}‏ أي على أديان شتى؛ قاله مجاهد وقتادة‏.‏ ‏}‏إلا من رحم ربك‏}‏ استثناء منقطع؛ أي لكن من رحم ربك بالإيمان والهدى فإنه لم يختلف‏.‏ وقيل‏:‏ مختلفين في الرزق، فهذا غني وهذا فقير‏.‏ ‏}‏إلا من رحم ربك‏}‏ بالقناعة؛ قاله الحسن‏.‏ ‏}‏ولذلك خلقهم‏}‏ قال الحسن ومقاتل، وعطاء ويمان‏:‏ الإشارة للاختلاف، أي وللاختلاف خلقهم‏.‏ وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك‏:‏ ولرحمته خلقهم؛ وإنما قال‏{‏ولذلك‏}‏ ولم يقل ولتلك، والرحمة مؤنثة لأنه مصدر؛ وأيضا فإن تأنيث الرحمة غير حقيقي، فحملت على معنى الفضل‏.‏ وقيل‏.‏ الإشارة بذلك للاختلاف والرحمة، وقد يشارك بـ ‏}‏ذلك‏}‏ إلى شيئين متضادين؛ كقوله تعالى‏{‏لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك‏}‏البقرة‏:‏ 68‏]‏ ولم يقل بين ذينك ولا تينك، وقال‏{‏والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما‏}‏الفرقان‏:‏ 67‏]‏ وقال‏{‏ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا‏}‏الإسراء‏:‏ 110‏]‏ وكذلك قوله‏{‏قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا‏}‏يونس‏:‏ 58‏]‏ وهذا أحسن الأقوال إن شاء الله تعالى؛ لأنه يعم، أي ولما ذكر خلقهم؛ وإلى هذا أشار مالك رحمه الله فيما روى عنه أشهب؛ قال أشهب‏:‏ سألت مالكا عن هذه الآية قال‏:‏ خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير؛ أي خلق أهل الاختلاف للاختلاف، وأهل الرحمة للرحمة‏.‏ وروي عن ابن عباس أيضا قال‏:‏ خلقهم فريقين، فريقا يرحمه وفريقا لا يرحمه‏.‏ قال المهدوي‏:‏ وفي الكلام على هذا التقدير تقديم وتأخير؛ المعنى‏:‏ ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين؛ ولذلك، خلقهم‏.‏ وقيل‏:‏ هو‏.‏ متعلق بقوله ‏}‏ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود‏}‏هود‏:‏ 103‏]‏ والمعنى‏:‏ ولشهود ذلك اليوم خلقهم‏.‏ وقيل‏:‏ هو متعلق بقوله‏{‏فمنهم شقي وسعيد‏}‏هود‏:‏ 105‏]‏ أي للسعادة والشقاوة خلقهم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وتمت كلمة ربك‏}‏ معنى ‏}‏تمت‏}‏ ثبت ذلك كما أخبر وقدر في أزله؛ وتمام الكلمة امتناعها عن قبول التغيير والتبديل‏.‏ ‏}‏لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين‏}‏ ‏}‏من‏}‏ لبيان الجنس؛ أي من جنس الجنة وجنس الناس‏.‏ ‏}‏أجمعين‏}‏ تأكيد؛ وكما أخبر أنه يملأ ناره كذلك أخبر على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يملأ جنته بقوله‏:‏ ‏(‏ولكل واحدة منكما ملؤها‏)‏‏.‏ خرجه البخاري من حديث أبي هريرة وقد تقدم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 120 ‏)‏

‏{‏وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وكلا نقص عليك‏}‏ ‏}‏كلا‏}‏ نصب بـ ‏}‏نقص‏}‏ معناه وكل الذي تحتاج إليه من أنباء الرسل نقص عليك‏.‏ وقال الأخفش‏{‏كلا‏}‏ حال مقدمة، كقولك‏:‏ كلا ضربت القوم‏.‏ ‏}‏من أنباء الرسل‏}‏ أي من أخبارهم وصبرهم على أذى قومهم‏.‏ ‏}‏ما نثبت به فؤادك‏}‏ أي على أداء الرسالة، والصبر على ما ينالك فيها من الأذى‏.‏ وقيل‏:‏ نزيدك به تثبيتا ويقينا‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ما نشد به قلبك‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ نصبر به قلبك حتى لا تجزع‏.‏ وقال أهل المعاني‏:‏ نطيب، والمعنى متقارب‏.‏ و‏}‏ما‏}‏ بدل من ‏}‏كلا‏}‏ المعنى‏:‏ نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك‏.‏ ‏}‏وجاءك في هذه الحق‏}‏ أي في هذه السورة؛ عن ابن عباس وأبي موسى وغيرهما؛ وخص هذه السورة لأن فيها أخبار الأنبياء والجنة والنار‏.‏ وقيل‏:‏ خصها بالذكر تأكيدا وإن كان الحق في كل القرآن‏.‏ وقال قتادة والحسن‏:‏ المعنى في هذه الدنيا، يريد النبوة‏.‏ ‏}‏وموعظة وذكرى للمؤمنين‏}‏ الموعظة ما يتعظ به من إهلاك الأمم الماضية، والقرون الخالية المكذبة؛ وهذا تشريف لهذه السورة؛ لأن غيرها من السور قد جاء فيها الحق والموعظة والذكرى ولم يقل فيها كما قال في هذه على التخصيص‏.‏ ‏}‏وذكرى للمؤمنين‏}‏ أي يتذكرون ما نزل بمن هلك فيتوبون؛ وخص المؤمنين لأنهم المتعظون إذا سمعوا قصص الأنبياء‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 121 ‏:‏ 123 ‏)‏

‏{‏وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون، وانتظروا إنا منتظرون، ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم‏}‏ تهديد ووعيد‏.‏ ‏}‏إنا عاملون‏.‏ وانتظروا إنا منتظرون‏}‏ تهديد آخر، وقد تقدم معناه‏.‏ ‏}‏ولله غيب السماوات والأرض‏}‏ أي غيبهما وشهادتهما؛ فحذف لدلالة المعنى‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ خزائن السماوات والأرض‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ جميع ما غاب عن العباد فيهما‏.‏ وقال الباقون‏:‏ غيب السماوات والأرض نزول العذاب من السماء وطلوعه من الأرض‏.‏ وقال أبو علي الفارسي‏{‏ولله غيب السماوات والأرض‏}‏ أي علم ما غاب فيهما؛ أضاف الغيب وهو مضاف إلى المفعول توسعا؛ لأنه حذف حرف الجر؛ تقول‏:‏ غبت في الأرض وغبت ببلد كذا‏.‏‏.‏ ‏}‏وإليه يرجع الأمر كله‏}‏ أي يوم القيامة، إذ ليس لمخلوق أمر إلا بإذنه‏.‏ وقرأ نافع وحفص ‏}‏يرجع‏}‏ بضم الياء وبفتح الجيم؛ أي يرد‏.‏ ‏}‏فاعبده وتوكل عليه‏}‏ أي الجأ إليه وثق به‏.‏ ‏}‏وما ربك بغافل عما تعملون‏}‏ أي يجازي كلا بعمله‏.‏ وقرأ أهل المدينة والشام وحفص بالتاء على المخاطبة‏.‏ الباقون بياء على الخبر‏.‏ قال الأخفش سعيد‏{‏يعملون‏}‏ إذا لم يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم معهم؛ قال‏:‏ بعضهم وقال‏{‏تعملون‏}‏ بالتاء لأنه خاطب النبي صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ قل لهم ‏}‏وما ربك بغافل عما تعملون‏}‏‏.‏ وقال كعب الأحبار‏:‏ خاتمة التوراة خاتمة ‏}‏هود‏}‏ من قوله‏{‏ولله غيب السماوات والأرض‏}‏ إلى آخر السورة‏.‏